الثلاثاء، 14 مايو 2013

خزائن جدتي "حلوة "..بقلم الكاتب العراقي باسم السعيدي















 باسم السعيدي





العيون لا تشيخ، تتهدل الجفون وتشيب الرموش وتتغضن الملامح، وتبقى العيون على صباها.
لطالما أدهشتني عينا جدتي العسليتان، ففيهما صفاء ليل تموز حين كنا نأوي صغاراً إلى الأسرّة على السطوح مساءً، فتنعش خيالاتنا الهيئات التي يشكلها نثار النجوم العشوائي.. وصفاء السماء.
جدتي إيقونة متجسدة، بتغضنات وجهها، وكفيها، وعصابة رأسها، وضحكتها المكتومة المتشحة بالخجل حتى وهي في سن مابعد اليقظة.
تأريخ أثقل كاهلها فاحدودب ظهرها لينبيك أن قامتها التي تضارع السماء اضطرت إلى الانحناء كي لا ترتطم بها، حكايا أزمنة، وحكايا طفولة، وحكايا الجان.. حتى حكايا عن الحروب وخسارة الإنسان الكبرى لنفسه.
كنا صغاراً بأعين متطلعة، وأسئلة متطلبة، وأكف صغيرة تمسك بالأرغفة، وأفواه تمضغ رويداً رويداً منصتين إلى حكاياها عن "الجِنِّية"... كفيلم سينمائي نغوص معها في التفاصيل التي نحفظها عن ظهر قلب.
نتسكع بين الأحداث الجسام في الحكايات، ونتضاحك مع أبطالها في مغامراتهم، ونبكي حين تحاصرهم الأحداث بقسوة، على الرغم من أننا سمعناها جميعاً إلا أننا لم نزل نتعاطى مع كل الحكايا بنفس الشغف، ما أروع الطفولة.
كنا نجتمع في العطلة الصيفية من كل عام عند جدتي حلوة، ونرتصف عند سريرها العتيد، تراقب عيوننا "صرّتها" الكبيرة، وهي تضحك في سرّها من شغفنا الكبير بهذه "الصرّة".
تمد يديها إلى العالم الساحر داخل هذه الصرة، من دون أن تفتح عقدها المائة، وكل عيوننا تترقب المفاجأة، بلا استثناء، كل مفاجآت جدتي حلوة سارّة، تخرج الينا يدها المعقودة على ما في داخلها.
- هاك.. وتضع شيئاً بيدي.. فإذا به "صول دعبل"*، بالألوان الرائعة الأصفر والأزرق والأحمر.. فلا تسعني جنبات المنزل فأخرج بركضة إلى الفضاء الأرحب.. إلى الشارع لأعلن عن فرحتي برقصة غير مفهومة، إنها هبة السماء، جدتي حلوة التي تمنح كل ما تطاله يداها.
بعد هنيهة، يخرج محمد برقصة هي الأخرى لاتشبه شيئاً سوى ارتعاشات الفرح، حاملاً بيده مجموعة "تصاوير اللعب" لغاري كوبر وجوليانو جيما وغيرهم.. قافزاً هنا وهناك.
حتى شقيقتي الصغرى أخذت نصيبها "دمية" وذهبت إلى الحديقة مع صويحباتها لتلعب "بيت أبو بيوت"، جدتي حلوة تمنح السعادة، وتطيل عمر البسمة على شفاهنا.
بعيد الظهيرة كنا ننام عند فراشها، نغمض عيناً ونفتح الأخرى، لنوهم الآباء بأننا نيام، هم يعرفون ولاشك بذلك، وجدتي حلوة تعلم هي الأخرى، لكنها تقرِّب صغرى البنات لتروي لها حكاية، ننزلق بصمت إلى "حلقة" الحكايات، لنستمع، أحياناً تنسى جدتي تفصيلاً معيناً فنذكرها به، لتعيده كما ألفته آذاننا ومخيلاتنا، فتستقيم الحكاية.
كبرنا قليلاً، وكبرت هي كثيراً، حالة من النسيان أخذت تداهم حكاياتها، وبدورنا نحن اكتشفنا متعة توجيه دفة الحكاية ومداخلتها مع أخرى كنوع من المزاح، مستغلين ذلك القلب الطيب الذي أخذته سنّة الحياة إلى دهاليز النسيان.
كانت تروي حكاية ما عن اللصوص، فتنسى إلى أين وصلت بنا الحكاية طالبة أن نذكّرها، لكن رؤوسنا الصغيرة كبرت، وأخذت ترتوي من الناحية الثانية لنهر الحياة، فكنا نجيب:
- كفؤوا قدورهم.. "هذا الحدث ينتمي إلى قصة الجنية لا إلى قصة اللصوص"
فتكمل حكاية الجنية بدلاً من إكمال القصة الأولى.. ونضحك نحن ملء أشداقنا، وتضحك معنا هي الأخرى.
حين كبرنا قليلاً بعد فإن المستخرجات من صرة جدتي حلوة ما عادت تسلينا، باتت تستهوينا أكثر متعة الإكتشاف لحل العقد المائة للصرّة الغامضة، والولوج إلى ذلك العالم.
تضرب على أيدينا كلما حاولنا مدها إلى صرتها، فنسحبها بسرعة متضاحكين، كل واحد منا كان يجرب حظه من ناحية حتى أخذ بها الضجر منا مأخذاً، فتخرج صرخة ضعيفة منها لنرتدع.
اللعنة على سن المراهقة، أبعدنا عنها، وبرز جيل جديد في العائلة من الصبيان والبنات ليعيد اللعبة والانصات لحكايا جدتي حلوة ويستمتع بعطاياها الأخاذة التي لم تعد تستهوينا نحن " الكبار" كما كان يحلو لنا أن نطلق على أعمارنا.



http://alaalem.com/index.php?aa=news&id22=8133




 للامانة منقولة من صحيفة العالم العراقية


نُشرت بتأريخ 30/أبريل /2013


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

هذيان قلم خمسيني ..!

عبثاً نكتب ..! وخطوط أيدينا  تنزف صبراً .. 24/مارس/2016 باسمة السعيدي *&*& ...