الشاعر …وعشتار …وشارع الموكب البابلي …!!
…. في صباح هذا اليوم البغدادي الهاديء وهو يعانق صباحاتهُ العراقية الرائعة الطيبة والمتسامحة الكريمة ..
وردّني أتصالٌ هاتفي من أخٍ وزميلٍ وشاعر عراقي مُغترب في المانيا وبالتحديد في برلين وكان يصف لي برلين وجمالها الآخاذ وعبير نسيمها العليل
وجدارها البرليني الحصين ومتانة عماراتها وعذوبة وجمال طبيعتها وثقافاتها العميقة المتعددة وجذورها الأصيلة وووو!!
!! أستوقفته أنا وقلت له: هل أكملت وصفك لبرلين !! .كيف بك تفتخر بحضارةٍ ليست لك فيها ايُ جذور وأي أنتماء !!
رد مندهشاً من كلماتي وقال : نعم وهل أخطأت أنا في شيءٍ من الوصف ؟؟
قلت سأحكي لكَ عن تأريخنا العراقي البابلي ….عن بوابة عشتار الباابلية وشارع الموكب البابلي !!
…..لكني أخبرته أولاً بالفرق بين برلين وبابل والرابط المشترك بينهما الا وهو "حرف الباء" فقط ..!!
ضحكَ قائلاً : أكملي سيدتي الفاضلة وصفكِ لبابل وعشتار وشارع الموكب ..!
_قلت : بابل الحضارة …بابل الخير …بابل عشتار وتموز …بابل الهة الجمال والنماء والنبات …بابل شارع الموكب الأسطوري ..بابل بنت الرافدين العظيمين …!!
أستوقفني ضاحكاً وبشدة هذه المرة قائلاً : أكملي بسرعة لانك شوقتني لعذوبة بابل ..!
_قلت سيدي الكريم : وأنت على مداخل مدينة الهة الجمال والحب ستدخل من بوابة عشتار …!!
تدخلها مغمضاً عينيكَ …والرهبة تسيطر على كل أحاسيسك كشاعر لأنك حتماً ستكتب أجمل قصائدكَ وأنت تتخيل نفسك أمام عرسٍ أسطوري في شارع الموكب البابلي ..!!
_قال لي كيف ذلك؟
قلت:أحذر من الأسود التي تقف على جانبي الشارع البابلي ..!! وأغمض عينيك واطلق العنان لمُخيلّتكَ كشاعر وأمشي بكل هدوء وسكينة ..
تتقدمك ذاكرتك بخطواتٍ حذرة وببطيء الى عبق التأريخ ….ستجد أمامك !! …الهة الجمال …عشتروت …..وفينوس …
……وعشتار ..! و(أنانا) ….
عشتار البابلية …سيدة السماء …سيدة النبوءات ..
كما جاء في كل الاساطير القديمة..
تقول أنانا :(( بكل أكتمالي اتجلى وأعطي النبوءات للبشر ))…!!
……ففي المعبد القديم لمدينة بابل الحضارة كانت تستوي عشتار الملكة على عرشها المقدس وهي ترتدي على رأسها تاج السهول وتحمل بأحدى يديها صولجانها اللازوردي وتُمسّك الختم الملكي بالاخرى وهي تتمتع بطيلسان السلطة وعنفوان الملكة البابلية ..
يشع من مُحياها الالق البابلي …وترتصف على جانبي شارع الموكب وصيفاتها الجميلات وهن يرتدين زينتهن ويقمن طقوس الزواج الملكي على أنغام نقر الطبول …يعلوا قرع الطبول تارةً وأخرى يخفت نقرها ليعلوا صوت الهتاف البابلي …
تنبعث من ذلك المكان الاسطوري عطور الناردين التي تُسكب أمام موكب الالهة عشتار الملكة المبجلة ..
لتأخذكَ عطور البخور المحروق وكأنها أشبه بغيماتٍ بيضاء وأنت ترّمقُ بحذر مايدور في شارع الموكب من تقديس للملكة عشتار والملك تموز …!!
تتقدمها وصيفتان عن يمينها وعن شمالها وهما تحرقان العنبر البحري عند قدمي الملكة … مروراً بشارع الموكب البابلي الذي يقف تموز في نهايتهِ بأنتظار الملكة عروساً له …!
تبدأ المراسيم البابلية وسط الهتافات وقرع الطبول وهي تمر على السجاد الرخامي الاحمر وعطر البخور واللبان وزيت الزئبق والزهور التي جُمعت من الجنائن البابلية …
…. حتى وأن كان المنقبون لم يعثروا على أيّ اثر من تلك الجنائن، فإنهم أستطاعوا خلال حوالى عشرين سنة من الجهد الخلاّق أن ينقلوا بوابة عشتار كاملة وجزءاً من شارع الموكب إلى برلين ..!!
أدخل من خلال البوابة. الايحاء يحلّق ويخذل. يحلّق لأنه يضع للفكرة جناحين ناعمين، ويخذل لأنه لا يؤدي إلى بابل. هنا تمتزج الحقيقة بالوهم. ولأني أدرك أن بابل لم تعد منذ الاف السنوات مكاناً، أرضى بصورتها كما تظهر في هذا المكان الذي يضيق بزئير الأسود. الوهم الذي يعينني على تلمس الطريق إليها. لقد سبقتها فكرتها إلى العالم، فصارت الارض لا تدور إلا من خلالها. إن تكن بابلياً، يحق لك أن تحكم الأرض وأن توقف دورانها في أي لحظة إلهام. سَحَرَ إلهامُها الاباطرة فمشوا إليها ليذهبوا من بعدها إلى الموت مطمئنين. ما من أرض بعدها، وكل الطرق سالكة إليها. فيها أنهى الاسكندر المقدوني رسالته، وفي الوقت نفسه انتهى أرقه، ولم تعد تقلقه الكتب السماوية التي كتبت فيها. يده كتبت آخر سطر في قصيدتها. ضع يديكَ على يده وأغمض عينيكَ موعوداً بالسحر…لتدخل الى نهاية شارع الموكب البابلي …
هاهي الملكة تصل الى جهة الملك تموز وتقف عند قدميهِ الاسود تكريماً وتعظيماً للملكة البابلية …!!
الاسود البابلية تزأر لشجاعة البابليين القدماء ..
…..
…ها هو شارع الموكب في اشد حالات الاحتفال …!!
_سألت انا الشاعر : هل راق لك وصفي لشارع الموكب البابلي ؟؟والعرس الاسطوري …!! هل يوجد في برلين مثل هذه البروتوكولات البابلية القديمة والأُبهة الحضارية العراقية ..!!
_أجاب ودون تردد : لا …لا يوجد مثيل لحضارتنا البابلية ….صفي لي أكثر …وأكثر … لأنعش ذاكرتي بجمال الموكب البابلي !!
_قلت : تقدم الملك تموز وبدأ الزوار لذلك العرس بالتوافد وهم يحملون أجمل الأزهار …وسلال التفاح …والعنب والبخور …ومشمش الجنائن …وبرتقال سهول بابل ….وبدأأ الترحيب والتبريك …
وبأشارة واحدة من عشتار تتوقف كل حركة وتخّر الوصيفات منحنيات للملكة لانها ستتقدم خطوةً الى الامام ليأخذ بيدها الملك تموز …الراعي …اله النبات والحيوان …
…………..من بعيد وأنت تنظر الى بوابة عشتار ترى الاقواس شاخصة أمامك وهي توزع فتنتها بين جهات الارض الاربع …
والاسود لازالت في شارع الموكب …
_قال الشاعر :…أشفقت على نفسي وأنا أثقل خطواتي بين دروب بابل متخيلاً نفسي في متحف برلين …!! لكن هناك شيءٌ ينقصني وتشير اليه حواسي الخمس ..!!
تموز شاهد كل تلك الاساطير في شارع الموكب البابلي …! وأنا في برلين لم أرى شيئا غير تلك الاسواق والمطاعم والمكتبات والبيوت وأماكن اللهو والمخازن ….
لم تكن بابل تخترقُ دروب متاهاتها مدينة للعيش..!
ليس هناك سلالم تقودني الى الجنائن المعلقة …! سيكون من الصعب عليَّ أن أجد أسمي مكتوباً على ذلك اللوح المكتوب بالاحرف المسمارية …والمعطر بعطر الناردين البابلي !!
…كنت أنظر سيدتي العراقية الى بابل بعينيكِ أنتِ …ومن خلال حروفكِ التي أخبرتني بكل ما كنت أجهله عن بابل الحضارة …كنت أنظر الى الجدران البابلية الخزفية وشارع الموكب والحجر الرخامي الاحمر الذي يغطي الشارع الاسطوري …لكن أصابعي لم تكف عن تنعيم الآجر الذي تلمسهُ بموسيقى بابلية …أشبه بالعدوى …!! يخرج المرء من الشارع وبوابة عشتار دون أن يلمسه الهواء في الخارج
….قال الشاعر : ((سأعود لكي أتأكد من أنني كنت في بابل فعلاً))…!
قدم شكره الجزيل …وطلبت منه العودة تاركاً خلفه جدار برلين وعماراتها ومبانيها وعبيرها الساحر …!! ليعود الى بابل ….الى شارع الموكب ….الى بوابة عشتار بنت الرافدين …بنت دجلة والفرات …ليتركَ الوسن خلف ظهرهِ ويعود الى بلدهِ …بلد الحضارة …بلد الجمال …عراق الخير …!!لانه أيّقن تماماً بأن الفرق بين بابل الحضارة وبرلين لم يكن سوى حرف "الباء فقط"..!!
تحياتي وفائق التقدير والاحترام
7/حزيران /2012
باسمة السعيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق